السلام عليكم و رحمه الله بركاته
انا رجعت تاني يا شباب و اسبكم مع الجزء الثالث للقصه
-3-
عندما تدخل مقر الجريدة سوف يثير ذهولك الجو العام الموحي بالفقر والبؤس ..
انت تسمع عن تلك الجريدة من آن لآخر وترى أعدادها في كل مكان .. بالطبع انت لا تتوقع ان يكون مقرا شبيها بمبنى الأهرام او الأخبار ، لكنك كذلك لا تتوقع ان يكون تلك الشقة البائسة بالطابق الثالث من تلك البناية المتداعية ..
سوف تجتاز المدخل محاولا الا تتعثر بصندوقي القمامة هذين ، ومحاولا الا يظفر هذا القط بطرف سروالك .. ترى تلك الأسهم على الجدار وهي الشيء الوحيد الذي يقنعك بأنك لست أحمق ..
تصعد طابقين .. رائحة العفن تتزايد .. الطابق الثالث .. وهذه اللافتة على الباب ..
ثمة سكرتيرة شاحبة تدس قدميها في خفين منزليين وأمامها رغيفان تعلوهما ثلاثة او اربعة أقراص من الطعمية .. ثمة كيس بلاستيكي صغير به المخللات اللازمة .. والفتاة تتضور جوعا .. من الصباح هي تتضور جوعا لهذا لا ترحب بك على الإطلاق .. إنها تنتظر اللحظة التي يكف فيها الزوار عن التوافد لتفتك بالرغيفين .. ثم تتبعهما بكون من الشاي الأسود ، وبعدها تكتشف ان الحياة رائعة وان هذا أفضل العوالم الممكنة . .
امامها يجلس عم ( فهيم) الفراش المسكين .. إنه دائما يشعر بالملل وينتهز أية فرصة ليغفو .. وهو الآخر بانتظار رحيلك بفارغ الصبر ..
هل تشم هذا المزيج الغريب من رائحة حبر الآلة الكاتبة والشاي على ( السبرتاية ) والعطن المتصاعد من دورة المياه ؟ .. ليست هي ( النيويورك تايمز ) لكنها صحيفة على كل حال ، ولها قراؤها الذين هم مثلك لا يتصورون ان يكون هذا هو المكان .. بالمناسبة لا تجازف ابدا بد. دورة المياه .. لا تسال عن السبب لكن حمقى كثيرين فعلوها وهم الآن في المصحات يعالجون من الصدمة النفسية ..
صوت آلة كاتبة في مكان ما .. وصوت من يضحك بصوت عال .. وصوت مذياع مفتوح ..
تسال عن الأستاذ ( فايز ) .. لماذا تسال عنه ؟ لانه هو الشخص الذي يهمك هنا وهو صحفي شاب متحمس .. يعتقد أنه جاء العالم ليغير كل ما فيه من فساد ، وليوقف كل شخص عند حده أخيرا ..
الأستاذ ( فايز ) ليس هنا .. إنه في مكان ما .. هو لم يظهر منذ ثلاثة ايام لكن هذا معتاد هنا وفي هذه المهنة ..
( فايز ) في الرابعة والعشرين .. غير متزوج.. غير حليق الذقن .. غير مهندم .. أعتقد انه لا ينال إلا بضعة ملاليم ، ولكنه من الطراز المتفائل .. ليست له أسرة في القاهرة لكنه يقيم في ( لوكاندة ) ما من لوكاندات الحسين .. لهذا لا يستعمل إلا قميصا واحدا وجوربا واحدا وحذاء واحدا .. وهو ظريف حاضر الدعابة لا يتورع عن استعمال لفظة غزل عابرة من حيث لآخر لهذا هو اكثر شخص هنا يروق للسكرتيرة الشاحبة ..
في الفترة الأخيرة كان ( فايز ) متحمسا .. أعني اكثر من اللازم .. يبدو انه وضع يده على موضوع مهم .. وكان مشغولا اكثر الوقت ..
ثم قام بمعجزة لم يرها احد من قبل .. لقد اغلق درج مكتبه وابتاع (رزة ) وقفلا وبصبر قام بتبيتهما .. كان الدرج مفتوحا طيلة الوقت كقلب صديق .. لا ترى فيه إلا علبة تبغ فارغة مهشمة وجريدة عمرها عامان .. لكنه اليوم حرص على إغلاق الدرج .. وقد قال له زميله ( سامح ) :
- " يبدو أك كونت ثروة أخيرا .. لقد صار لديك ما تخفيه .. "
قال ( فايز) في ثقة :
- لا" محسوبك ليس لديه ما يخفيه إلا الأفكار الأصيلة .. "
ولم يكن ( سامح ) يقوم بعمل ذي بال منذ فترة .. لم تكن لديه أفكار ولم يكلفه أحد بشيء .. لهذا راح يمارس العمل الوحيد الذي يجيده حقا : شراء الإعلانات .. كان يحمل كارنيه الصحيفة ويخرج من الصباح الباكر ليدور على الشركات والمحلات يعرض بضاعته ..
أحيانا يعود بحمل ثمين وفي الغالب لا يعود بشيء على الإطلاق ..
لهذا كان الفضول يعتصره ليعرف ما يدور بذهن ( فايز ) ..
كان يعرف أنهما متشابهان في الظروف والموهبة والوضع المادي .. ومعنى هذا ان احدهما يصلح بديلا للآخر .. وفي الفترة الأخيرة بدا سكرتير التحرير غير راض عن العمالة الزائدة في الجريدة .. فلو جرى ترجيح الكفتين لن يحتاج المرء الى عراف كي يحدد اسم من يتم الاستغناء عنه ..
لو لم يحقق شيئا غير التهام الشطائر وشرب الشاي في هذا الشهر فمن الوارد ان يجد نفسه في الشارع قريبا .. وهو شيء يقلقه برغم انه لم يتقاض نقودا حقيقية منذ شهرين .. على الأقل كان له مكان يذهب اليه في الصباح ويعود منه منهكا في المساء ..
منذ عدة أيام لم يعد ( فايز ) وهذا شيء يحدث كثيرا .. لكنه يعود في كل مرة مثقلا بالأخبار او التحقيقات الجديدة .. وعندها يعود اسمه للظهور في الجريدة وربما صورته ايضا ..
وجاءت اللحظة المناسبة عصر ذلك اليوم ..لقد خلت الغرفة التي تضم خمسة او ستة من الصحفيين .. إنه ذلك الجو الخامل بعد الغداء .. دعك من ان ثلاثة منهم يصلون جماعة في الممر الخارجي و ( سامح ) لم يكن من المصلين ، لهذا انتظر حتى سمع صوت التكبير وعرف ان الممر مسدود الآن .. لا احد يستطيع مغادرة الغرفة او الد. لها ..
هكذا تناول دبوس الشعر النسائي من جيبه .. قليل من الناس من يعرف كيف يفتح قفلا بدبوس شعر أنثوي لكنه يعرف هذا ويعرف اشياء كثيرة اخرى.. لن يؤنبه ضميره لانه هكذا يعتقد سيكتفي بإلقاء نظرة فضولية ..
" الله اكبر "
بسرعة يدس الدبوس في القفل الذي يغلق الدرج وراح يعبث هنا وهناك ..
" سمع الله لمن حمد "
صوت ( كليلك المميز .. لقد استجاب القفل الصغير . إن ( فايز ) احمق إذا حسب ان هذا القفل يحمي أسراره حقا ..
" الله اكبر "
انفتح الدرج أخيرا .. الآن يرى بوضوح ان هناك مجموعة من الصحف المطوية .. لا وقت للبحث فيها .. ماذا يوجد تحتها ؟ يوجد مظروف كبير .. فلنر ما به ..
" الله اكبر "
المظروف به اوراق كثيرة .. أوراق عتيقة في الواقع حوالي مائة ورقة يبدو انه تم نسخها زنكوغرافيا ( لم يكن تصوير المستندات شائعا وقتها ) .. ولكن هذه الكتابة ؟ إنه يعرف هذه الحروف . . إنها العبرية ولا شك في هذا .. ولكن ما معنى هذا ؟
كانت البلاد في حالة حرب . . وللحروف العبرية ذات الإيحاء المقبض المقزز الذي تثيره فيك أرجل العنكبوت المشعرة .. ( فايز ) لا يجيد العبرية وعمله لا يتعلق بها باي شكل كان .. فما معنى ان تجد اوراقا عبرية في درجة المغلق ؟
" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "
لا وقت للمزيد من الاستنتاجات .. سوف يصلون في أي وقت .. لكن يجب ان تحتفظ بهامش عريض من الشك .. هناك جواسيس في العالم .. والجاسوس قد يكون أخاك او جارك ..
او صديقك في العمل !
أغلق الدرج بسرعة ويده ترتجف وضغط القفل ليغلقه ..
" السلام عليكم ورحمة الله "
ما الذي يقوم به ( فايز ) بالضبط